المقالات
شارك المقال!

الاستشارة في أدب العرب

العرب أمة حكيمة، فلا تراها تُزري بالعقل والعقلاء، ولا ترفع رأسًا بالجهل والجهلاء. ولحكمتِها حسَّنَتْ من (الاستشارة) ولم تُقبِّحْها، لأنَّها من تمام العقل. فالعاقل المنفرد برأيه يُدبِّر بعقلٍ واحد، والمستشير لغيره من العقلاء يُدبر بعقول مجتمعة. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «‌الرأي ‌الفرد ‌كالخيط ‌السَّحِيل، والرأيان كالخيطين المُبْرَمَيْنِ، والثلاثةُ مِرَارٌ لا يكاد ينتقضُ». السحيل: الخيط الفرْدُ. ووإذا فُتِلَ خَيْطانِ فصُيِّرَا خيطًا واحدًا سُمي (مُبْرَمًا)، و(المِرارُ) الحبل الشديد الفتْل.

وقريب منه قول الآخر: «توأم الرَّأْي خير من الفَذِّ، ورأي الثَّلَاثَة لَا يُنْقض».

وقال الأحنف بن قيس: «اضربوا الرأيَ بعضه ببعض يتولّدْ منه الصّواب».

وقال زياد لأبي الأسود الدؤلي: «لولا أنّك كبرت لاستعملتك واستشرتك»، فقال له أبو الأسود: «إن كنتَ تريدني للصراع فليس فيَّ، وإن كنتَ تريد الرأي فهو أوفر مما كان».

وقال عمرو بن العاص: «ما نزلَتْ بي قطُّ عظيمةٌ فأَبْرَمْتُها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظُّ لي دونهم. وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة». وقيل لرجل من بنى عبس: ما أكثر صوابكم؟ ! قال: نحن ألفٌ، وفينا حازمٌ واحد، ونحن نشاوره ونطيعه، فصرنا ألف حازم.

وقال عبد الحميد الكاتب: «المُشاور في رأيه ناظرٌ من ورائه».

والمُستبِدُّ برأيه لا يُشاور ولا يستعين يُحرَمُ السَّدادَ كثيرًا مِن حيث يظنُّ أنه يتوخى بذلك السَّداد. وما أطرَفَ العربَ إذ سَمَّتِ المنفرد برأيه: (فُوَيْتًا)، لِمَا يَفوتُه من الصواب بانفراده برأيه.

ويروى عن علي -رضي الله عنه-: «من أُعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ». وقالوا: «من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه». وقال سيف بن ذي يزن: «من أُعجب برأيه لم يشاور، ومَن استبد برأيه كان من الصواب بعيدا». وقال عبد الملك بن مروان: «لَأَنْ أُخْطِئَ وقد استشرتُ، أحبُّ إليَّ مِن أن أُصِيبَ وقد استبددت برأيٍ من غير مشورة». وقال ابن الدمينة:

خليليَّ ليس الرأيُّ في صدر واحد = أَشِيرَا عليَّ اليوم ما تَرَيانِ؟

يقول: لا يكون الرأيُّ رأيًا إذا خرج من صدر واحد منفرد.

ولأنَّ في ظاهر أمر الاستشارة احتياج وافتقار تجدُ من الناس من يُنزِّه نفسَه عنها ظانًّا أنه يترفَّع بذلك عما يشينها، كالذي قال: «ما استشرتُ أحدًا قطُّ إلّا تكبَّرَ عليَّ وتصاغرتُ له، ودخلَتْهُ العِزَّةُ ودخلتني الذلَّة، فإياك والمشاورة وإن ضاقت بك المذاهب». وبيَّنت العقلاء أن هذا رأيٌ فائل، وظنٌّ غير مصيب، فقالوا: «الأحمق من قطعه العُجْبُ عن الاستشارة». وقال علي بن أبى طالب رضى الله عنه: «نِعْمَ المؤازرةُ المشاورة، وبئس الاستعدادُ الاستبداد». وقال عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي: «إنَّ رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائمًا، ‌ووجدت ‌هواك ‌يقظان، فإياك أن تستبد برأيك، فإنه حينئذ هواك ». وقالوا: «تعوَّذْ مِن سَكَرات الاستبداد بِصَحَوات الاستشارة ».

وأحسن ابنُ المقفع أيَّما إحسان في إبطال هذا الظن إذ قال: «ولا يُقْذَفَنَّ في رُوْعِكَ ‌أنك ‌إن ‌استشرتَ الرجالَ ظهرَ للناس منك الحاجةُ إلى رأيِ غيرك. فإنك لست تُريد الرأيَ للافتخار به، ولكنما تُريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك أردتَّ الذكرَ، كان أحسنَ الذِّكْرَيْنِ وأَفْضَلَهما عند أهل الفضلِ والعقلِ أن يُقال: لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي».

ولو كان أحدٌ من العقلاء مستغنيًا عن الاستشارة لاستغنى عنها من كمَّل الله خلقه وعصَمَه من الخطأ نبيُّه محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أوصاه الله عز وجل بقوله: (وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ). قال الحسن البصري: «إن ‌الله ‌لم ‌يأمر ‌نبيَّه ‌بمشاورة ‌أصحابه حاجة منه إلى رأيهم، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة». وقال الله -عز وجل- في الثناء على الأنصار رضي الله عنهم وتعداد مناقبهم: (وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ).

وقد أحسن بشار في تحسين الاستشارة والحث عليها بقوله:

إذا بَلَغَ الرأيُّ النصيحةَ فاسْتَعِنْ = برأيِ نَصِيحٍ أو نَصيحة حازمِ

ولا تحسبِ الشُّورى عليك غضاضَةً = ‌مكانُ ‌الخوافي نافعٌ للقوادم

وخَلِّ الهُوَيْنى للضَّعيفِ ولا تَكُنْ = نَؤوماً فإنَّ الحَزْمَ ليسَ بِنائِمِ

وما خَيْرُ كَفٍّ أمْسكَ الغُلُّ أخْتَها = وما خَيْرُ سيفٍ لم يُؤَيَّدْ بقائِمِ

إذا كنْتَ فَرْداً هَرَّكَ الناسُ مُقبِلًا = وإنْ كنتَ أدْنى لم تَفُزْ بالعَزائِمِ

وما قَرَعَ الأقوامَ مثلُ مُشيَّعٍ = أريبٍ ولا جلَّى العَمى مثلُ عالِمِ

قال الأصمعيّ: قلت لبشار: إني رأيت رجالَ الرأي يتعجبون من أبياتِك في المشورة. فقال: أما علِمْتَ أنّ المُشاورَ بين إحدى الحُسنَيَيْن: بين صوابٍ يفوز بثمرته أو خطأٍ يُشارَك في مكروهه؟ فقلتُ: أنت والله أشعرُ في هذا الكلام منك في شعرك.

 

وأحكَمَتِ العربُ أمرَ الاستشارة، فهي وإن حسَّنَتْ منها وأثنَتْ عليها لم تجعلْها بابًا مُشْرَعًا يَلِجُه المرءُ في كلِّ شأنه، بل حثَّتْ على تخيُّرِ المستشارِ والتأنِّي فيه. فحثوا في وصاياهم على مشاورة أُناسٍ، وحذَّروا من مشاورة أُناس. قال قسّ بن ساعدة الإيادي لابنه: «لا تشاور مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فَهِمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان عاقلًا، فالهمُّ يَعْقِلُ العقْلَ فلا يتولَّدُ منه رأيٌ ولا تَصْدُقُ به رَوِيَّة». وقال الأحنف بن قيس: «لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يَرْوى، ولا الأسير حتى يُطلق، ولا المُقِلَّ حتى يَجِدَ، ولا الراغبَ حتى يَنجَح». وقال آخر: «لا تشاور صاحبَ حاجةٍ يريد قضاءها، ولا جائعًا، ولا حاقنَ بَوْلٍ».

 

وقال شاعرهم:

وأنفعُ مَن شاوَرْتَ مَن كان ناصحًا = شفيقًا، فأَبْصِرْ بعدها مَن تُشاوِرُ

وليس بشافيك الشفيقُ ورَأْيُهُ = عزيبٌ، ولا ذو الرأيِ والصدرُ واغرُ

يقول: الشفيق المحبُّ لك إذا كان بعيد الرأي ضعيف النظر، هو والعاقل الذي امتلأ صدرهُ عليك حقدًا= مثلان لا فرق بينهما. فالأول وإن كان محبًّا لك فلا رأيَ له، والآخر وإن كان له رأي فهو مبغضٌ لك، فلا انتفاع لك بنصحهما. ومثله قول الآخر:

وما كلُّ ذي لُبٍّ بمؤتيك نُصْحَهُ = وما كلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ

ولكن إذا ما استجمعا عند واحدٍ = فَحُقَّ له مِن طاعة بِنَصِيبِ

وقال بشار:

وأدْنِ مِنَ القُرْبى المُقَرِّبَ نَفْسَه = ولا تُشْهِدِ الشّورى امْرءًا غيرَ كاتِمِ

وقال آخر: «عليك بمشورة من حَلَبَ أَشْطُرَ دَهْرِه، ومرّتْ عليه ضُروبُ خَيرِهِ وشرِّه، وبلغ من العمر أشدَّه، وأورت التجربة زَنْدَه».

 

وكتبه
د.أيوب الجهني

مقالات مشابهة

مفاهيم خاطئة شائعة عن تجربة الاستشارة

هل فكرت يومًا أن تزور مستشارًا لكن راودتك شكوك حول جدوى الأمر؟ فيما يلي بضع ...

سبعة كاملة: في الاستشارة والمستشار

لا تزال العرب تعدُّ كل سؤالٍ للناس نقصاً، وكل احتياجٍ إزراءً، عدا خلق الاستشارة، فقد ...

الاستشارة لمحة في التصور والدلالة

يعزز التصوّر الإسلامي من الفعل الجماعي، ويعلي من شأنه ويحض عليه، وينبذ الفردانية ويحط منها، ...

[وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْر]

خلق الله الإنسان وجبله على الضعف والوهن، يعتريه الضعف البشري النفسي والعقلي والعاطفي والبدني...{وُخُلِقَ الإنسانُ ...