الاستشارة لمحة في التصور والدلالة
يعزز التصوّر الإسلامي من الفعل الجماعي، ويعلي من شأنه ويحض عليه، وينبذ الفردانية ويحط منها، ومن يطالع الأخلاق الإسلامية يجدها فعلا جماعيا في الأصل، تنطلق من نفس فاعلها فيفوح مسكها على المجتمع، فالأفعال بعواقبها، والشورى من الأخلاق الرفيعة التي يندبنا إليها الإسلام؛ ليبرز روح التآخي والتعاون والتآزر، قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال: نحن ألف رجل، وفينا حازم، ونحن نطيعه، فكأنّا ألف حازم. فالشورى إدراك الإنسان لضعفه، وخلوه من وهم المعرفة، ومكاشفة لقدراته ومحدودية تجربته،(فالتجارب ليس لها غاية، والعاقل منها في زيادة) كما قال بعض الحكماء، والاستشارة تدل على اتساع أفق طالبها في الرؤية؛ لإدراكه توسع المعرفة وعمق غورها وتعدد تخصصاتها، فيخلص من الرأي الفطير إلى الخمير، وقد أرود البيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى: التودد إلى الناس، وما استغنى مستبد برأيه، وما هلك أحد عن مشورة، وإذا أراد الله بعبد هلَكَة كان أول ما يهلكه رأيه).
وإذا كانت الاستشارة إدراك الإنسان لضعفه فهي من ناحية المآلات تعد قوة في البصيرة ورجاحة في العقل وزيادة في الوعي؛ كون طالب الاستشارة يطلب الأخطاء قبل أن يقع فيها فيجتنبها، ويناديها قبل أن تباغته، ويكاشف تفاصيلها قبل وقوعها بالكلية، ويجسدها قبل أن تتشظى وتدق وتخفى فتترك آثارها الخفية في النفس.
والشورى خروج للنفس عن سيادتها وفقرها وقوقعتها حول قدرتها المحدودة، وفيها وفاء لمطالبها، وتنامي للعقل، وتصالح مع النقص، واعتراف للآخر وتناغم معه في صورة اجتماعية مشرقة، وفيها تمثيل لقيّم النصح والتعاون والإرشاد.
لحظنا مما سبق شيئا من جماليات الشورى على مستوى الأخلاق والنفس والجانب الاجتماعي، ومع ذلك فإننا لا نعدم أن نلامس جمالا آخر من جانب اللغة، إذ الشورى من شار العسل يشوره أي استخرجه من الوقبة، والوقبة النُّقرة تكون في صخرة، والمراد خلية النحل، وبذلك يدل المعنى اللغوي أو المحوري للشورى - كما جاء عند الدكتور محمد حسن جبل في المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم - على استخراج ما يحتويه الشيء من طيب أو ما ينتفع منه كالعسل في الوقبة أو الخلية، ومن المعلوم أن دلالة الألفاظ تنتقل من دلالتها الحسية إلى الدلالة المعنوية، وهذا الانتقال من المعنى اللغوي إلى الاصطلاحي يجب ألا نغفل عن جمالياته ودقائقه، فالاستشارة هي الطلب وهذا المعنى آتي من صيغتها الصرفية، والمعنى طلب الرأي من مذخور العقل والخبرة، ولك أن تستشعر هذه النكتة الدلالية بين طلب العسل من مظانه الطيبة وطلب الرأي من مظانه الحكيمة، فإذا كان في العسل شفاء فالاستشارة شفاء كذلك.
وكتبه د. محسن الشهري
البحث
doSearch('q',e.target.value)" value="" type="search" placeholder="البحث..">التصنيفات
مقالات مشابهة
مفاهيم خاطئة شائعة عن تجربة الاستشارة
هل فكرت يومًا أن تزور مستشارًا لكن راودتك شكوك حول جدوى الأمر؟ فيما يلي بضع ...
سبعة كاملة: في الاستشارة والمستشار
لا تزال العرب تعدُّ كل سؤالٍ للناس نقصاً، وكل احتياجٍ إزراءً، عدا خلق الاستشارة، فقد ...
الاستشارة في أدب العرب
العرب أمة حكيمة، فلا تراها تُزري بالعقل والعقلاء، ولا ترفع رأسًا بالجهل والجهلاء. ولحكمتِها حسَّنَتْ ...
[وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْر]
خلق الله الإنسان وجبله على الضعف والوهن، يعتريه الضعف البشري النفسي والعقلي والعاطفي والبدني...{وُخُلِقَ الإنسانُ ...