سبعة كاملة: في الاستشارة والمستشار
لا تزال العرب تعدُّ كل سؤالٍ للناس نقصاً، وكل احتياجٍ إزراءً، عدا خلق الاستشارة، فقد حفلت آداب العرب بحمدها وعدها من خصال المروءة وسمات الكمال، وأنها زيادة للمستشير في عقله وعلمه، وبصيرته ونظره، فكأن المستشار يضمُّ إلى عقله عقول غيره، بكل ما فيها من ثراء التجربة، وجزالة الرأي، حتى قال بعضهم: " إنما نعيش بعقل غيرنا: يعني المشاورة".
ولا ينال المرء المستشير هذه الزيادة إلا بأمرين:
الأول: حسن العرض، فإن المشورة جواب فرع عن السؤال، فينبغي للمستشير أن يذكر كل ما يكتنف أمره ويمكن أن يؤثر في قراره، فيكشف للمستشار – بعد ثقته بأمانته – شيئاً من خاصة نفسه، وباطن أحواله، مما يساعد المستشار في تمام الرؤية وشامل الإحاطة، والصدور برأي عن علم وبصيرة.
والثاني: حسن اختيار المستشار، وكم تعجب إذ ترى تهاون الناس بهذا الجانب، فترى كثيراً منهم ينزلون حاجاتهم في ساحات التواصل الاجتماعي، مجاهيل يسألون مجاهيل، لا يدري هل الذي يجيبه عاقل أم جاهل، وكبير أم صغير، وحكيم أم سفيه، فترى الناس حينذاك يأخذون بسؤاله ذات اليمين وذات اليسار، كل يقول بقوله ويدلي بدلوه، حتى يتعكر المورد، ويتلوث المنبع، ولا يزيدون السائل إلا رهقاً.
وقد نسب صاحب العقد إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبارة محكمة بليغة في شأن فوائد الاستشارة، حيث ذكر فيها سبع خصال: "استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وإلفة القلوب، واتباع الأثر".
وهذا إجمال مسدَّد، أحببت أن أبسط القول فيه:
فالأول/ استنباط الصواب: فرأي المستشار نبعٌ صافٍ إذا كدَّر الهم نبعك، إذ ربما حجب المرء عن استشراف الهدى فيما سيقدم عليه أمور شتى، من قلة خبرته، أو غلبة الحيرة عليه، أو تفرُّق همه، حتى إذا استشار غيره كشف له عن حجبٍ غاشية، فظهر له الصواب وبان ولاح.
والثاني/ اكتساب الرأي: فإن استشارة العاقل زيادة لعقل المستشير، وإثراء لخبرته، ودربة لتفكيره، إذ ينظر إلى المآلات والعواقب، ويفتش في الخفايا والجوانب، وفي أمثال العرب: "أول الحزم المشورة".
والثالث/ التحصن من السقطة: فكم يعرض المرء نفسه للعثرات إذا استبد برأيه واستغنى، وذلك لما جبل عليه بنو آدم من قصورهم ونقصهم وقلة حيلتهم، لكن المستشير يعتضد بسواعد من استشارهم، ويعتمد على كواهلهم، فيسد بهم شيئاً من فاقته ويكمل ما يستطيع من نقصه، فيتقوى بهم عن الزلل والعثرة.
والرابع/ التحرُّز من الملامة: فيصون المستشير نفسه عن أن يلومه أحد على ما اختاره، إذ لم يكن في ذلك الاختيار متفرداً برأيه معجباً بهواه، بل كان يصدر عن رأي جماعة ومشورتهم، فإن كان من لومٍ فليلحقهم جميعاً! وقد قيل: "من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً، وعند الخطأ عاذراً".
والخامس/ النجاة من الندامة: وهذا في خاصة نفس المرء، فما أكثر ما يقرع الإنسان نفسه على خطأ وقع فيه، وتمنى لو عاد بها الزمن فلم يفعل ولم يقدم، لكن الذي يستشير هو في حمى من الرضا والاطمئنان، إذ فعل ما بوسعه، وبذل ما يقدر عليه، فلم يعد بعد للندم مدخلاً، و"الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الاستبداد".
والسادس/ إلفة القلوب: فإن المستشير يضع من استشاره في مقام رفيع من نفسه، إذ ينزل به حاجته، ويستودعه سره، ويفضي إليه بهمه، ويوليه ثقته، وهذه أمور لا ينبغي أن تكون إلا لمستشار أمين ذي دين وخلق ومروءة، فإذا فعل تقاربت القلوب، وامتزجت الهموم، وتعاضد منهما الرجاء والدعاء.
والسابع/ اتباع الأثر: وهو ختام السبعة وخيرها وأجلها، فالشورى خلق نبوي وسنة متبعة، قَالَ الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، قال الحسن: "قد علم الله تعالى أنه ليس به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستنَّ به من بعده".
هذه سبعة كاملة في منافع الاستشارة، عدَّاً لا حصراً، ولا يزال الرجل محمود السيرة ما استشار الفضلاء من بني قومه، فأول الاستشارة عقل وحزم، وأوسطها كشف وبصيرة، وختامها حمد وحسن عاقبة.
وكتبه:
د. منال الدغيم
البحث
doSearch('q',e.target.value)" value="" type="search" placeholder="البحث..">التصنيفات
مقالات مشابهة
مفاهيم خاطئة شائعة عن تجربة الاستشارة
هل فكرت يومًا أن تزور مستشارًا لكن راودتك شكوك حول جدوى الأمر؟ فيما يلي بضع ...
الاستشارة لمحة في التصور والدلالة
يعزز التصوّر الإسلامي من الفعل الجماعي، ويعلي من شأنه ويحض عليه، وينبذ الفردانية ويحط منها، ...
الاستشارة في أدب العرب
العرب أمة حكيمة، فلا تراها تُزري بالعقل والعقلاء، ولا ترفع رأسًا بالجهل والجهلاء. ولحكمتِها حسَّنَتْ ...
[وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْر]
خلق الله الإنسان وجبله على الضعف والوهن، يعتريه الضعف البشري النفسي والعقلي والعاطفي والبدني...{وُخُلِقَ الإنسانُ ...